الهمجية والحضارة
تمهيد
التخلف والتقدم موضوع نال اهتمام الكثير من المفكرين والكتاب، سعيا إلى اكتشاف الأسباب والقوانين المؤدية إلى ديمومة التخلف أو الانعتاق منه، وسلوك طريق التقدم. وغالبا ما يجري تشخيص أسباب التخلف في أسباب خارجية وأسباب داخلية تتعلق بهيمنة القوى الاستعمارية أو الصراعات الداخلية وعدم الاستقرار على التوالي.
وسأحاول اليوم تقديم مقاربة مختلفة تتناول الهمجية والحضارة كأسس ومسببات للتخلف والتقدم.
لقد ارتقى الإنسان من حال الهمجية التي تشبه الحالة الحيوانية عبر قرون متطاولة من الجهد والإبداع الإنساني والقيادة الرشيدة. ولما كان الجهد والإبداع الإنساني أمران ميسران لكل البشر يحكم تساويهم في الخلق والإمكانيات الذهنية والبدنية مع فروق طفيفة، فإن القيادة الرشيدة هي في رأيي أهم أسباب التقدم كما أن القيادة غير الرشيدة أهم أسباب ديمومة التخلف.
والرشد حالة ثقافية تتعلق بمستوى التحضر الذي بلغته البيئة التي ينتمي إليها الفرد الرشيد، ونوعية ومستوى التربية الذي منحته هذه البيئة للفرد. والهمجية والتحضر حالتان تكتسبان بالتربية والقدوة، ومن دواعي الأمل أنها ليست مسألة جينية بل مسألة تربية لابد من اكتسابها منذ عمر مبكر، أي منذ سن الطفولة الأولى، حتى يتعزز السلوك المتحضر ويقمع السلوك الهمجي. إذ أنه إذا شب المرء في أسرة ومجتمع يعيشان حالة الهمجية، فإن اكتسابه للسلوك المتحضر يصبح أمرا مشكوكا فيه.
ولذلك فإن مجتمعات كثيرة توفرت لها قيادات متحضرة رشيدة تمكنت من مغادرة عالم التخلف إلى فضاء التقدم والرقي في زمن وجيز.
(1)
الهمجية والحضارة
الهمجية حالة حيوانية أو قريبة من الحيوانية، يعيشها الأفراد، وتعيشها المجتمعات، وتتميز بالبساطة والعفوية، والخضوع التام للغرائز الطبيعية البدائية للنفس البشرية فتطبع سلوك الهمجي بطابعها في كل ما يفعل ويدع.
وبالمقابل الحضارة حالة من التقدم والرقي يعيشها الأفراد وتعيشها المجتمعات وهي كحالة متقدمة في المسيرة البشرية تتميز بالتعقيد فتطبع سلوك الشخص المتحضر بتقاليد وأساليب تصرف تتميز بضبط الغرائز، وترقية السلوك، ورقي الاهتمامات، والسمو بالنوازع الغرائزية وتصريف طاقاتها في أنماط من السلوك أكثر رقيا وتهذيبا.
وكمثال على ذلك فإن ملاحظة المدن وسلوك أهل المدن والأرياف وسلوك أهل الأرياف في المجتمع اليمني يمكن أن توضح الفكرة.
وعندما أقول أهل المدن، فاني اعني بهم أولئك الذين قطعوا علاقتهم بالأرياف، وعصبيتها العشائرية، وأنماط عيش أهلها منذ أجيال فأصبحوا مدينيين تماما، إذ أن هناك في المدن قبائل وعشائر وريفيون وثيقي الصلة بمجتمعاتهم الأصلية، وعاداتها وتقاليدها، وأساليب تفكيرها وسلوكها، وهؤلاء ليسوا من أهل المدن بطبيعة الحال وان عاشوا فيها. وهذا المقال ليس في ذم البدو وأهل الأرياف والقبائل، وإنما هو توصيف للواقع سيختلف معه الكثيرون، إما تعصبا، وإما بتأثير النزعة الرومانسية التي بالغت في مدح الهمجي والهمجية (روسو)، أو بالغت في مدح مجتمعات الفلاحين (تولستوي) الخ.. ومن ثم بتأثير من تأثر بالرومانسية من الكاتبين بالعربية.
ومن نافلة القول ان في كلا البيئتين المدينة والريف حالات فردية تخالف التوصيف العام إلا أن هذا من الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، فما أصفه هنا يتناول الغالب الأعم.
(2)
لو أنك أخذت سكنيا ضخمة وقطعت قطاعا في منتصف شارع في المدينة كما تفعل مع قالب (الكيك) فانك سترى آثار الحضارة متمثلة في منجزات الهندسة من أسفلت، وما تحته من طبقات من الحصى وغيره، وسترى في الأسفل كابلات الكهرباء، وأنابيب المياه والمجاري، وعلى السطح سترى فنونا من الأعمال الهندسية في المباني، ثم الرصيف وما عليه من أعمده كهرباء وإعلان وأشجار، والشارع المسفلت وما فيه من خطوط وإشارات وفتحات مغطاة للمجاري والمياه والكهرباء، وسترى فنونا من العمارة المخصصة لأغراض متنوعة إلخ.
وبالمقابل إذا فعلت الشيء نفسه في القرية سترى حالها طبيعية لا أثر فيها للجهد والإبداع البشريين.
(3)
والحضارة مرتبطة بالجهد المنظم والإبداع الذي يخدم هذا الجهد ويجعله مفيدا، فالمدني الذي يهتم بالتعليم هو صانع الحضارة فكرا و تخطيطا وتصميما، وتجد هذا الإبداع ظاهرا في مختلف جوانب حياته فهو يهتم بالآداب والفنون، والعلوم العملية من هندسة وطب وغيرها. بينما يعيش الريفي حالة طبيعية حيث يحصر همه في تحصيل المال من أي سبيل، وتنمية القوة الهمجية للسيطرة على الآخرين وعلى ممتلكاتهم ضمن تكوينه الاجتماعي العشائري القبلي، الذي يعتبر كل من هو خارج العشيرة والقبيلة غنيمة مباحة، فيمكن له قتله ونهبه. وهي ثقافة كان لها أكبر الأثر في الصراع المستمر بين الريف والمدينة، وهو صراع شهد حوادث مروعه من النهب والسلب والاغتصاب الذي مارسه الريفيون ضد المدن وأهلها في صفحات دامية ومخجلة في التاريخ القريب والبعبد.
(4)
فالصنعاني أو التعزي أو الحديدي أو العدني المديني العريق يعيش حالة تختلف عن الريفي المجاور، فالمدني يسكن في منزل يتميز بالنظافة، بغض النظر عن الفقر والغنى، بينما يعيش الريفي مع حيواناته في نفس المنزل في أغلب الأحيان، وبينما يهتم المدني برائحة المنزل واستخدام العطور والبخور، يستمتع الريفي بروائح أرواث وأبوال الحيوانات التي تعيش معه.
ويهتم المدني بنظافته الشخصية، بعكس الريفي الذي لا يهتم كثيرا بهذا الأمر من حيث الملبس على الأقل.
وتجد طعام المدني متنوعا ومعقد الإعداد إلى درجة التفنن، بينما يفضل الريفي اللحوم المسلوقة أو المشوية، والخبز غير المخمر.
وفي تناول الطعام تجد المدني متأنقا فلا يكرع ولا يتحشأ، ويظهر ضبطا للنفس فلا يظهر جوعه خلال تناول الطعام، ويراعي آداب المائدة، بعكس الريفي…الخ
ويتناسب الرقي في السلوك طرديا مع الوضع الاجتماعي للمدني، حيث تكون الطبقات المتعلمة أكثر رقيا في سلوكها من فئات التجار والصناع والعمال الأقل تعليما.
(5)
وفي السلوك تجد لدى المديني أصولا للحديث والتصرف مع الآخرين يعتبر من يخرج عنها قليل الأدب حتى إذا تعرض للاستفزاز، بينما يقوم الريفي بقول كل ما يخطر على باله، ولا تردعه إلا فوارق القوة التي قد ترد عليه تصرفه بأذى مباشر في التو واللحظة، وهو ميال باستمرار لحل خلافه مع الآخر بالقوة العارية والصوت العالي والشتائم.
وفي تربية الأطفال تكثر الموانع والحدود لدى أهل المدن. فيكثر قول لا، ولا يجوز، وعيب، بينما يترك أهل الأرياف أطفالهم ينمون ويتصرفون على سجية غرائزهم ونوازعهم الحيوانية البدائية.
وفي الغايات والأهداف يركز المدني على التعلم واكتساب المعرفة، بينما يهتم الريفي بالمال والسلاح كمظهر للقوة والرقي الاجتماعيين، ووسيلة لتحسين ظروفه ومستواه الاجتماعي، ويستخدمهما دون تردد ضد الآخرين، ولا يمنعه عن ذلك وازع ديني أو أخلاقي.
(6)
ومن الواضح أنه كلما ازداد المجتمع رقيا وحضارة كان التفاوت في السلوك بين أهل مدنه وأهل مدن المجتمع المتخلف كبيرا. ومع ذلك فإن الحضارة ذات طابع مادي أي أنها تتقدم وتنتكس نتيجة للظروف التي تطرأ على المجتمعات البشرية. ولكن الذين اكتسبوا قدرا من التحضر ينقلون ذلك إلي الأجيال اللاحقة.
فنجد مجتمعات أفريقية وأسيوية فقيرة يتميز أهلها بقدر كبير من الرقي والتعقيد في أوجه سلوكهم. حتى لو حول تغبر الأحوال مجتمعاتهم إلى أرياف.
وقد نجد مجتمعات مدينية غنية الآن، بفعل صدفة نفطية مثلا، يعيش أهل مدنها الهمجية بأوضح مظاهرها، على الرغم ما يحيط بهم من أسباب الترف، وذلك لأن الرقى في السلوك يتطلب أزمانا من التعليم والتحضر، ولكن عند ما تنزع هذه المجتمعات إلى الانعزال وعدم الاختلاط بالأمم المتحضرة لأسباب أيديولوجية أو عنصرية، فإن عملية الانتقال من الهمجية إلى التحضر تطول وتتأخر.
(7)
أنتجت مجتمعات البداوة في الجزيرة العربية أيديولوجيات دينية ترى الحالة المثلى في العودة بأحوال المجتمع والناس وأساليب عيشهم إلى ما كانت عليه في القرن السابع الميلادي ،الأول الهجري. وقد كانت مكة والمدينة بيئات أكثر تطورا من البيئة التي أنتجت الأيديولوجية السلفية الوهابية، التي أصبحت تمثل خطرا داهما على المجتمع اليمني، تسعى لحكمه وفقا لصيغة طالبان الأفغانية الموغلة في الهمجية والتطرف.
ولم يكن من الممكن للدولة الإسلامية أن تنتج حضارة ذات بال لو كان حكامها من هذا الصنف البدوي، من المؤكد أن حصر الخلافة في قريش، وهم سكان أهم حاضرة في الجزيرة العربية، وأكثرها تحضرا قد ساعد على سلوك الدولة مدارج الرقي والتقدم، ومكنها من وضع أسس بناء الحضارة الإسلامية، التي قامت على أكتاف أبناء الحضارات العريقة المجاورة المفتوحة.
(8)
انطبعت هذه الايدولوجيا السلفية الوهابية بالحالة الهمجية لمنتجيها وحامليها، فعملت الأسرة الحاكمة السعودية بالتعاون مع البريطانيين بين عامي 1926 و 1928 على كسر شوكة الحركة العسكرية، بالقضاء على من كانوا يسمون الإخوان المجاهدين وقياداتهم، الأمر الذي أتاح للأسرة الحاكمة للدولة السعودية إمكانية العمل على تطوير البلاد إلى حد ما، وبما يسمح باستخراج النفط الضروري للمصالح الدولية التي ترعاها.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 ، أدركت العائلة الحاكمة السعودية مدى خطر حتى النسخة المدجنة لديها من السلفية الوهابية، فشرعت في سحب البساط الشعبي من تحتها عن طريق نشر شبكة واسعة من القنوات التلفزيونية الفضائية التي تروج لقيم الغرب، وتبث أفلاما أمريكية على مدار ساعات اليوم مجانا، وهو أمر ليس له مثيل. إضافة إلى قنوات كثيرة، بالمئات وليس العشرات، متخصصة في الغناء والرقص الذي تعتبره السلفية رجسا من عمل الشيطان. ولكن مشكلتنا تتمحور حول اندياح الايدويولوجية الوهابية السلفية إلينا عبر الحدود، حيث وجدت بيئة متخلفة تناسب انتشارها. ولكن يحدث ذلك بعد ان ساعد البنرودولار على توطن السلفبة حتى في اكثر حواضر العالم العربي تقدما.
(9)
علاقة الريفي بالمرأة علاقة ملكية بالأساس، فالريفي يعتبر الدفاع عما يعتبره ملكه أساس رجولته ومحور كرامته، في الوقت الذي يعتبر فيه أيضا قدرته على التعدي على أملاك الغير دليلا على القوة والرجولة. تماما كما في مجتمعات القرود. ولهذا فإن الريفي، ومن هذا المنطلق، لا يعترف للمرأة بأي حق في المكية كالميراث على سبيل المثال. وعلى الرغم من كونه حقا يفرضه الدين، فهو يضرب بهذا الحق عرض الحائط ويرفض توريث المرأة . وإذا اضطر إلى ذلك فإنه يفرز لها أقل وأردأ ما يمكن من العقارات. حتى أن الأسر في الأرياف بينها اتفاق ضمني على عدم المطالبة بمواريث النساء، حيث يعتبر من يطالب بحقوق زوجته شخصا غير سوي وناقص الرجولة، وهذا بعكس المدني الذي يعتبر إعطاء المرأة حقوقها مفخرة له، ويعتبر حرمانها من حقها منقصة ومسا باعتباره كشخص سوي.
علاقة الملكية التي يفرضها الريفي على المرأة يجعلها عرضة للعنف الشديد من قبل الرجل إلى درجة القتل عند أول اشتباه حول علاقة عاطفية خارج الزواج بشخص ما سواء كانت ابنة أو أختا أو زوجة، وغالبا ما تمر هذه الجرائم دون عقاب، حيث يتواطأ المجتمع الريفي على الجريمة، ويحرص على عدم تعرض المجرم للعقاب. بل أنني اعرف شخصيا عن حالات في قريتي قام فيها الزوج بقتل زوجته لأسباب عاطفية، فيعتبره أهلها بطلا، ويقومون بتزويجه بأختها تعويضا ومكافأة. ويعتبر الزوج ممتلكات زوجته إذا كان لها أملاك ملكا له، فيفك أزماته المالية بالتصرف بأملاكها، مبقيا أملاكه دون مساس.
(10)
صحيح أن الريفي يتمتع بخصال إيجابية كالنجدة والتعاون مع نظرائه عند الملمات، ولكن هذه الصفات إنما هي نتيجة واقعة الاجتماعي العشائري والقبلي، الذي يفرض أنواعا من التكافل الاجتماعي لا بد له من القيام بها كثمن للحصول على رضا الجماعة والقبول به من قبلها وتقديرها له.
وعلى الرغم من أن الفوارق الكبيرة في السلوك والاهتمامات بين المدني والريفي راجعة إلى عوامل سياسية واجتماعية جعلت المدنية مركزا للحكم تصب فيه الخيرات التي ينتجها المجتمع، ويستولي فيها قادة المجتمع المدينيون على نصيب كبير من هذا الناتج، الأمر الذي يتيح لهم التعلم والتأمل والبناء والإبداع، إلا انه تظهر دائما في المجتمع البشري إيديولوجيات تمييزية تؤكد على الامتياز السلالي والعرقي كمبرر للاستحواذ على الثروة والقوة الخ.. وهذا مشاهد في كل المجتمعات حول العالم، ولكن ذلك لا ينفي حقيقة وجود تميز حضاري للمدينة على الريف، وللمديني على الريفي، يظهر في كل نواحي السلوك وأساليب العيش وطبيعة العلاقات مع الآخرين. وهذا التميز يرجع إلى التربية والثقافة وأحوال الاجتماع في المجتمع الإنساني، ولا يمكن أبدأ إرجاعه إلى نزعات التميز الأيديولوجية. ذلك أن ما هو واقع تاريخي واجتماعي لا يمكن القول أنه مجرد ظاهرة أيديولوجية. فالمقولات الأيديولوجية التي تشرع التميز الاجتماعي على أساس من العرق، واللون، والسلالة، والدين والمذهب، يراد بها أن تخدم إغراضا سياسية، ولكن الفوارق بين الهمجية والتحضر قائمة على الرغم من كل ذلك ولا يمكن إحالتها إلى مقولات أيديولوجية، بل هي قائمة على التربية والثقافة وتغير الواقع الاجتماعي نحو التحضر الذي لا يثبت إلا عبر أزمان متطاولة من الرقي المستمر.
(11)
على طريق التمدن ينتقل أهل الأرياف إلى المدن في ظاهرة اجتماعية متنامية في العالم كله. ولكن ما يحدث في بلادنا على وجه الخصوص، وفي العالم العربي بشكل عام، يشير إلى عملية عكسية يتم من خلالها ترييف المدن بدلا من تحضير الأرياف. وقد أدى تمكن الريفيين من السيطرة على مراكز القيادة العليا في المجتمع إلى استبعاد العناصر المدنية المتحضرة لصالح العناصر الهمجية، التي ستعمل على طبع المدينة بطابعها أولا، ومن ثم المجتمع كله، لتقوده إلى طريق خطر من التمزق السياسي والعنصري والمناطقي والقبلي العشائري.
وتشاهد في العالم العربي عملية هجرة أو تهجير منظمة للعناصر المتحضرة من المجتمع، والتي لا تستطيع التلاؤم مع همجية الريفيين المسيطرين على مفاصل القوة والثروة في المجتمع. فيبدأ المجتمع بخسارة أكثر عناصره قدرة وتحضرا وعلما وتقع كل خطط التطوير والتحديث والتنمية، حتى تلك التي يدفع إليها المجتمع الدولي، في الفشل نتيجة لطبيعة الممسكين بالسلطة.
فالريفي يتعامل مع ثروة المجتمع وممتلكات الدولة بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع ممتلكات العشيرة أو القبيلة الأخرى ، أي أنها تكون في نظره صالحة للنهب والاستباحة.
ويصبح التعذيب والقتل واستخدام القوة العسكرية هي السبل المفضلة لمعالجة المشكلات والتباينات الاجتماعية، وتصبح السيطرة الشخصية والعائلية على مؤسسات القوة الأمنية والعسكرية وأجهزتها المختلفة هدفا رئيسيا لدى القادة الريفيين الذي يحملون ثقافة حل المشكلات مع الآخر بالعنف.
وعلى سبيل المثال فإنه في فترة ما قبل الثورة 23 يوليو لم تعرف مصر التعذيب في السجون على الرغم من محاولات إلصاق ذلك بالأنظمة من قبل كتاب وأدباء من أنصار الانقلاب، كقصة العسكري الأسود ليوسف إدريس على سبيل المثال، بل أن مذكرات السياسيين الشيوعيين والقوميين والاسلاميين المعارضين للسلطة الملكية وحكوماتها المختلفة، نصف مواقع الاعتقال وتصور معاملة انسانية راقية في هذه المواقع. ولم يسمع الناس بحالات التعذيب الوحشية كالتي جرت في السجن الحربي والمعتقلات إلا في فترة ما بعد الثورة.
وقد ارتكب العسكريون العراقيون والحزبيون القادمون من الأرياف، والذين استولوا على السلطة في العراق مجازر فظيعة في البلاد، وادخلوها في دوامة من العنف والتمزق والمغامرات أوصلتها إلى الوقوع تحت الاحتلال الأمريكي في نهاية المطاف.
وكذلك كان الحال في سوريا التي استولى عسكريوها وحزبيوها الريفيون على السلطة فأوصلوها إلى واقع يملؤه الاغتيال والعنف.
ولا يكاد يخلو بلد عربي من ظاهرة سيطرة الريفيين على السلطة وما أحدثه ذلك من تمزقات وعنف، كانا من أسباب إدامة تخلف العالم العربي.
(12)
في الأنظمة التي تسنم الريفيون فيها مراكز القيادة على أساس من أيديولوجيات تقدمية، نجد أنهم سرعان ما انتكسوا إلى مستويات متدنية من الصراعات القبلية والعشائرية التي نقلوها من بيئتهم المتختلفة إلى بيئة الدولة، التي يفترض أنها حديثة، ولم ينج من هذا المصير القوميون أو الاشتراكيون على اختلاف تجاربهم.
إن قيادة نخبه متحضرة لبلدانها عامل رئيس في انعتاق البلد من التخلف، والسير في طريق التحضر والرقي. لقد لجأت حكومة سنغافورة إلى تجريم البصاق في الشوارع، وإلقاء العلكة وأعقاب السجائر، واتبعت معايير صارمة في مراقبة السلوك العام للفرد، بغرض مساعدته على التخلص من همجيته، ونقله في مدارج التقدم والرقي، حتى أنها وضعت خططا وتنظيمات لمنع استمرا تزاوج القطاعات المتخلفة والهمجية ببعضها، وعملت على تشجيع الزيجات التي تجمع المتحضر بالهمجي لتعديل سلوكه وقيمه.
وهكذا فإنه لا يمكن أن تتوقع من همجي بعيد عن التحضر أن يقود أي مجتمع إلى الرقي والتحضر، بل إنه على العكس من ذلك يتكفل بالقضاء على بؤر التحضر في المجتمع ويعيده إلى الخلف أشواطا بعيدة في اتجاه الهمجية.
(13)
عندما يتولى القبلي او السلالي مسؤولية أي موقع رسمي، فإنه يسارع إلى التصرف من وحي ثقافته العشائرية، ويسعى إلى ملء المرفق أو الوزارة التي يرأسها بأفراد عشيرته وأقربائه، وفي سبيل ذلك يشرع بمحاربه الكفاءات التي يعتقد أنها تقف عقبة أمام مطامعه الخاصة، وتبدأ سياسات التهميش (والتطفيش) تمارس بكل قوة، لتفرغ المرفق أو الوزارة من الكفاءات والقوى المتحضرة لصالح المزيد والمزيد من سيطرة التخلف والهمجية.
وحتى القبلي او السلالي الذي يحمل درجة الدكتوراه، تجد أن علمه ليس إلا قشرة سرعان ما ينسلخ منها عند ما يصل الأمر إلى المنافسة والسيطرة، حيث يعود إلى ممارساته الثقافية المتأصلة ذات الطابع الهمجي، والتي كما قلنا يتطلب الانسلاخ منها آمادا متطاولة، وقطيعة مع الواقع الاجتماعي المنتج لها، وهو ما لا يحدث لهذا الدكتور القبلي او السلالي المحاط بقرابته وعشيرته الهمجية المتخلفة، والذي يطمع إلى الوصول إلى موقع التميز والقيادة فيها، ويتطلع إلى اعترافها بمواهبه طبقا لمفاهيمها الهمجية، وليس وفقا لمعايير الحضارة والتطور التي اكتسبها.
(14)
وفي الميدانين الإعلامي والثقافي يلاحظ المراقب أن القبليين او السلالييين الذي يعملون في مجال الإعلام يسارعون في الانضمام إلى الأنظمة التي يقودها القبليونأو السلاليون ويروجون لمعاييرها الهمجية ويحملون صورتها بكل ما أوتو من قوة.
ومن جهة أخرى تجدهم يسارعون إلى الدفاع عن قبيلتهم أو منطقتهم اوسلالتهم العلوية وفقا لمعايير التعصب العشائري، ذلك أن الثقافة التي اكتسبوها ليست إلا قشرة لم تتجذر ولم تثبت، فسرعان ما تتقشر ليبدو من ورائها الطبع الهمجي المتخلف لثقافة الشخص الذي لا يستطيع الانسلاخ من ثقافته تلك، أو الالتزام بالقطيعة معها.
(15)
وكما قلنا أولا، فان المجتمعات المتحضرة مجتمعات معقدة تفرض معايير وقيما صارمة للسلوك على أفرادها،وعلى رأس هذه القيم والمعايير احترام القانون والخضوع له دون قيد أو شرط، فينطبع المجتمع بهذه القيم. وعلى سبيل المثال عندما ذهب الشيخ الوهابي عايض القرني منذ عام إلى فرنسا، عاد ليكتب مقالة عن مدى الرقي في التعامل لدى الفرنسيين والتزامهم بأخلاق اجتماعية راقية إزاء الغريب في ديارهم،على الرغم من دأب الوهابيين على الحديث عن انحلال الغرب وسقوطه الأخلاقي. نفس الدهشة أصابت أعلام العرب من الرعيل الأول في بدايات النهضة، لما شاهدوه من فرق في السلوك والتعامل بين مجتمعاتهم والمجتمعات الغربية التي زاروها. ومن نافلة القول أن هذا الفرق يتجلى في أسالب الحياة والعيش في أوجهها المختلفة، من اللباس، والطعام، والسكن، والاهتمامات الشخصية، وأسلوب الحديث، وطريقة التعامل مع المال العام، وفي الالتزام بالأنظمة والقوانين المختلفة، إلى آخر ذلك من أوجه العيش والسلوك. وهي حالة تختلف عن الحالة الهمجية اختلافا صارخا لا يمكن الخطأ بشأنه، لأنها تتعلق بالفرق بين انفلات وانضباط الغرائز، وبين الهمجية والحضارة.
الهمجية والحضارة على المستوى الدولي
(16)
أوَدُّ أَنْ أبتدئ بالنَظْر إلى فكرةِ ، جادلَ صاموئيل هنتينجتون ، في مقالته التي نشرها عام 1993 بعنوان صراع الحضارات ، مؤداها أنّ “المصدر الأساسي للنزاعِ هو الاختلافات الثقافيةِ ومن ثم فان الصراع لَنْ يَكُونَ أيديولوجياً أو اقتصاديا. فاختلاف الثقافات هو مصدر الانقسامات العظيمة بين الأمم، ولذلك فان النزاعِ سيكون ثقافياً”.
ويرى هنتينجتون أن هناك ثمانية حضارات، وهي بالتحديد، “الحضارات الغربية، والإسلامية، والكونفوشية، والهندوسية، واليابانية، والسلافية – الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، والأفريقية.” وهو تقسيم غريب يضم مزيجا غير متسق من الهويات الجغرافية والدينية والاثنية. .
فهناك داخل كل أو بعض هذه التقسيمات التي اقترحها صراعات وتَوَتّراتِ في كل منها. ثم أن كل مجموعة حضارية ليست كلا جامدا لا يتغير. فالتفافات اكبر العوامل المتغيرة في تاريخ البشرية.
ورَدّي هو أن الصراع بين الأمم سياسي واقتصادي، وفي خضم الصراع يميل الناس إلى تسفيه حضارة آو ثقافة العدو ورميها بكل نقيصة بما في ذلك اتهامها بالحق أو بالباطل بالبربرية والهمجية والإرهاب. ويصرون على إبراز أوجه الاختلاف متجاهلين أوجه التشابه.
(17)
تفاقم الصراع الاقتصادي السياسي بين أمم العالم منذ أن تمكنت أوروبا في القرن الخامس عشر من التوغل في آسيا وأفريقيا بالقوة العسكرية فقطعت مسار التطور الطبيعي لحضارات كثيرة مزدهرة. يقول الأستاذ كريج أ. لوكارد هو أستاذ كرسي بن وجويس روزنبيرج للتاريخ في قسم التغيرات الاجتماعية والتنمية بجامعة ويسكونسن جرين باي. ومؤلف كتاب رقصة العالم، في مقالته الرائعة بذور العولمة والتي كان لي شرف نرجمتها الى العربية:
” بنهاية القرن الرابع عشر الميلادي، كانت سمعة مدن مثل ملقا وكانتون وكاليكوت وهرمز كمراكز للكنوز الآسيوية وبضائع الرفاهية الآسيوية قد وصلت إلى أوروبا، التي أصبحت مدفوعة برغبة شديدة في الوصول إلى مصادر التجارة الآسيوية. وتمكن البرتغاليون في النهاية من شق طريقهم إلى الهند في العام 1448 وإلى ملقا في العام 1505 مفتتحين عهداً جديداً من النشاط الأوروبي في التاريخ الآسيوي. وبالفعل تمكن البرتغاليون من احتلال ملقا في العام 1511. وعلى الرغم من التفوق البرتغالي في عدد السفن والأسلحة فإن مستوى معيشة البرتغاليين كان أدنى بكثير. ولاشك أن هذا قد أسهم في الميل الأوروبي إلى استخدام القوة المسلحة لتحقيق أهدافهم التجارية والسياسية. وهذا الميل أكد على أن عولمة العالم خلال الخمسة القرون التالية ستكون تحت سيطرة الغربيين المسيحيين بدلاً من المسلمين أو الهنود أو الصينيين الذين بنوا هيكلها الأساسي خلال الخمسة قرون الممتدة ما بين العام 1000 الميلادي إلى العام 1500″.
(18)
وقد يتساءل القارئ قائلا: وهل هناك حضارة لم تستخدم القوة في الفتح والاحتلال عندما كانت قادرة على ذلك؟ والجواب هو نعم. يقول الأستاذ كريج أ. لوكارد في مقالته المذكورة أعلاه:
” إن المدى الذي بلغته العولمة في القرن الخامس عشر يمكن رؤيته من رحلات الاكتشاف الصينية الضخمة. فقد كان إمبراطور مينغ الصيني، يونغ لو، قد أرسل سلسلة من البعثات البحرية العظمى إلى جنوبي آسيا وما وراءها، وكانت تلك البعثات أعظم ما شهده العالم في ذلك الزمان على الإطلاق. وقد ترأس الأدميرال المسلم شينج هو أو زيانغ هي – كما كان اسمه ينطق أيضاً – والذي كان والده قد زار الجزيرة العربية، سبع بعثات بين الأعوام 1405 و1433 ميلادية. وكانت هذه الرحلات الكشفية من الضخامة بحيث أن أكبرها كان يضم 62 سفينة تحمل ثمانية وعشرين ألف شخص. وبالمقارنة فإن رحلة كروستوفر كولمبوس الاستكشافية الشهيرة التي حدثت بعد عقود قليلة كانت مكونة من ثلاث سفن أسبانية صغيرة تحمل على ظهرها مائة شخص. وكانت سفن الجانك الصينية الضخمة أقوى وأعظم كثيراً من أي سفينة أخرى في ذلك الوقت، وفي الحقيقة لم يسبق للعالم أن شاهد مثل ذلك الأسطول الضخم ومثل ذلك العمل البحري الكبير.
وخلال تلك الرحلات الغير عادية كانت السفن التي تحمل العلم الصيني تتبع الخط الملاحي التجاري خلال بحر الصين الجنوبي إلى الهند وإلى الخليج الفارسي والبحر الأحمر والجزيرة العربية ثم تتجه نزولاً بمحاذاة الشاطئ الشرقي لأفريقيا بعيداً حتى قلوة في تانزانيا. وقد أصبحت ملقا قاعدتهم الجنوبية، وكان حاكم ملقة يقوم بزيارات منتظمة إلى الصين لتقوية تحالفه معها. ولو أن الرحلات الصينية استمرت في طريقها لكان في مقدورها الدوران حول إفريقيا والوصول إلى أوروبا، ولكن لك لم يحدث لأن الأوروبيين لم يكن لديهم الا القليل جداً من السلع التي يمكن أن تثير رغبة الصينيين في اقتنائها. لقد عبَّرت الرحلات الصينية البحرية عن حماسة عصر بالغ الحيوية. وعلى الرغم من أن الصينيين قاموا برحلاتهم حاملين لواء السلام ولم يخوضوا إلا معارك قليلة جداً، فإن ستاً وثلاثين بلداً بما فيهم قليل من دول غربي آسيا وقعوا معاهدات تحالف مع الصين. وفي هذه الفترة كان الصين أعظم قوة في عالم يتعولم.
ولازال المؤرخون يتجادلون في أسباب رحلات زيانغ هي العظيمة. ويرى بعضهم أن الدبلوماسية كانت الهدف الأول بسبب التحالفات العديدة التي نجمت من الرحلات مؤكدة على الموقع القوي للإمبراطورية الصينية، بينما يشير البعض الآخر إلى الأهداف التجارية خاصة وأن الرحلات جاءت في الوقت الذي كان فيه التجار الصينيون ينشطون في جنوبي شرقي آسيا. وفي الفترة المبكرة من عصر مينغ ظلت الصين أكثر الحضارات تقدماً في العالم ونشطة تجارياً ومتطلعة إلى الخارج. وكان يمكن لصين مينغ أن تقيم صلات أكبر بين القارات وأن تصبح القوة العالمية المسيطرة في مساحات أبعد كثيراً من شرقي آسيا، ومع ذلك فإنها لم تفعل ذلك ولم تحاوله. وكانت الرحلات العظيمة إلى الغرب والطفرة التجارية في جنوبي شرقي آسيا قد وصلتا إلى توقف فجائي عندما أمر إمبراطور مينغ الصيني بالعودة إلى العزلة داعياً جميع الصينيين في الخارج إلى العودة إلى الإمبراطوية.
لقد كان هذا النكوص مدهشاً بحيث بدا تراجعاً كبيراً في أعيننا وكان تفسيره مدعاة للحيرة. وربما كانت الرحلات مكلفة جداً حتى بالنسبة لحكومة مينغ البالغة الثراء. وكانت الرحلات غير مجدية من الناحية الاقتصادية نظراً لأن السفن كانت تعود بسلع غرائبية كالزرافات الإفريقية لحديقة الحيوانات الملكية بدلاً من المعادن والسلع الثمينة الأخرى. ويظهر أن إمكانيات العولمة لم تكن ظاهرة للقادة الصينيين، وإضافة إلى ذلك فإن التجار في النظام الاجتماعي الصيني كانوا يفتقرون إلى الاحترام. وعلى العكس من الأوروبيين المسيحيين كان لدى الصين اهتمام لا يكاد يذكر بنشر ديانتها وثقافتها. كان المغول يتجمعون في وسط آسيا وكان بلاط مينغ مجبراً على توجيه الموارد للدفاع عن الحدود الشمالية. وكنتيجة لذلك تركت المحيطات مفتوحة للأوروبيين الغربيين الذين طوروا التقنيات العسكرية والبحرية الصينية والعربية، ثم أخذوا في تحدي العرب والهنود والآسيويين الجنوبيين من أجل السيطرة على نظام التجارة البحرية في المحيط الهندي”.
(19)
منذ ان تمكن البرتغاليون من احتلال ملقا في العام 1511. اظهرت حال الهمجية والبعد عن التحضر التي كان يعيشها الاوروبيون نفسها فكما قال لوكارد: “على الرغم من التفوق البرتغالي في عدد السفن والأسلحة فإن مستوى معيشة البرتغاليين كان أدنى بكثير. ولاشك أن هذا قد أسهم في الميل الأوروبي إلى استخدام القوة المسلحة لتحقيق أهدافهم التجارية والسياسية. وهذا الميل (إلى استخدام القوة) أكد على أن عولمة العالم خلال الخمسة القرون التالية ستكون تحت سيطرة الغربيين المسيحيين بدلاً من المسلمين أو الهنود أو الصينيين الذين بنوا هيكلها الأساسي خلال الخمسة قرون الممتدة ما بين العام 1000 الميلادي إلى العام 1500″.
وحتى بعد أن قطعت المجتمعات الغربية والفرد الغربي شوطا كبيرا في طريق التحضر إلا أنهم بقوا مصابين بانفصام الشخصية وهو الانفصام الذي يظهر بوضوح في تصرفاتهم داخل أوطانهم وتصرفاتهم خارجها، حيث يطلقون العنان لغرائزهم البدائية في التعامل مع الشعوب الأخرى، ويمارسون سياسات وممارسات لحمتها وسداها النهب والهيمنة والقتل.
ومن الواضح أن انبعاث أوروبا الاستعمارية كان على قرب عهدها بالبربرية والهمجية التي طبعت تاريخ الغرب الحديث بطابعها، وقد كان نجاح المجتمعات الغربية في التخلص من هيمنة الكهنوت، الذي كان رجاله إلى عهد قريب يجتهدون في محاولة اثبات ان الأسود والأسمر لا روح له، ونجاحهم في فرض سيادة القانون، سبب تخلصهم من الهمجية ودخولهم عالم التحضر. ولكن هذا التحضر المفروض بقوة القانون لا يزال يحتاج إلى زمن طويل لكي يتخلص الغربي من عنصريته ووحشيته القبلية إزاء الآخر المختلف.
(20)
يقول الاديب والمفكر البريطاني هارولد بنتر عن آخر تجليات الهمجية الغربية في احتلال العراق:
” كما يعرف كل شخص هنا، فإن التبريرات التي سيقت لغزو العراق كانت إن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل خطيرة للغاية، يمكن له إطلاق بعضها خلال خمسة وأربعين دقيقة ليحدث دمارا فظيعا. وقد أكدوا لنا ان ذلك كان صحيحا. وهو لم يكن إلا كذبا محضا.
لقد اخبرونا ان العراق كانت له علاقة بالقاعدة، وانه يتحمل مسؤولية المشاركة في الفظائع التي حدثت في نيويورك في 11 سبتمبر 2001. أكدوا لنا ان تلك كانت الحقيقة. ولم يكن ذلك إلا كذبا. اخبرونا بان العراق هدد امن العالم وان ذلك كان صحيحا. ولم يكن قولهم ذاك إلا كذبا.
إن الحقيقة مختلفة تماما. والحقيقة لها علاقة بالطريقة التي ترى فيها الولايات المتحدة الأمريكية دورها في العالم، والأسلوب الذي اختارته للعب ذلك الدور.” ويضيف: ” ان جرائم الولايات المتحدة في الفترة ذاتها ( خلال فترة الحرب الباردة) لم يتم تسجيلها إلا بشكل سطحي ناهيكم عن توثيقها، بل وناهيكم عن الاعتراف بها، هذا إذا وضعنا جانبا، من حيث المبدأ، مسألة الاعتراف بأنها كانت جرائم.
وعلى الرغم من الحدود التي أوجدها أمامها الاتحاد السوفييتي، فان أعمال الولايات المتحدة حول العالم أوضحت بجلاء أنها كانت تعتقد بان من حقها ان تفعل ما تريد.
ولم يكن غزو الدول ذات السيادة من الأساليب المفضلة لدى أمريكا. ولكنها فضلت وبشكل أساسي ما وصفته بالنزاعات ذات الحدة المنخفضة.
النزاعات ذات الحدة المنخفضة تعني أن آلافا من الناس سيموتون، ولكن بشكل أبطأ مما لو ألقيت عليهم قنبلة تقضي عليهم في لحظة واحدة. وهي تعني أيضا انك ستقوم بتلويث قلب هذا البلد أو ذاك، وتؤسس لمرض خبيث ينهش هذا القلب، ثم تظل ترقب انتشار الغنغرينا وازدهارها فيه .
وبعد ان يتم إخضاع الشعب او تدميره حتى الموت- وكلا الأمرين سواء- وتقوم بتنصيب أصدقاءك في الجيش والمؤسسات الاقتصادية الكبرى بكل راحة في سدة السلطة، عندها تذهب بادي الرضى لتعلن أمام الكاميرا ان الديمقراطية قد انتصرت. كانت هذه هي الصورة المعتادة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة التي اعنيها هنا”.
(21)
ومع ذلك وعلى الرغم من ذلك كله، هناك صيرورة تسوق المجتمعات الإنسانية في هذا العالم إلى اعتماد أنماط متشابهة في السياسة والاقتصاد والثقافة. وهذه الصيرورة تتحقق بشكل إرادي لا يواجه أية مقاومة من المجتمعات الإنسانية المختلفة، لأنها تقوم على رغبة وإرادة الإنسان في كل مجتمع على الاستفادة من كل ما من شأنه تحقيق فائدة له، وما فيه مصلحة تنعكس على جوانب حياته. وهكذا ينتشر كل اكتشاف واختراع علمي، وتنتشر أساليب تحسين الحياة في الصحة، وأساليب التعليم الأنجح، ووسائل الإعلام الأكثر فعالية، ووسائل النقل السريع والمأمون، والتنظيمات الاقتصادية الناجحة وغيرها، وهو ما يؤدي عمليا إلى تشابه كبير بين المجتمعات الإنسانية في كل جوانب الحياة المادية، وكثير من الجوانب الثقافية : كأساليب العيش (العيش في مساكن متشابهة حول العالم ومؤثثة بأساليب متشابهة) والترفيه (السينما والمسرح ومسلسلات التلفزيون والحفلات الاجتماعية الخ) ، والعادات الاجتماعية (التعبير عن المشاعر بإهداء الزهور وتشابه حفلات الزواج والاستقبال والوداع، والتهنئة والتعزية عن بعد بالبطاقات البريدية او وسائل الاتصال)، ومناهج التعليم ، وفنون التصوير، والآلات الموسيقية، وأنواع الألعاب الرياضية وغيرها، بل والتنظيمات السياسية والاجتماعية (كبني الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية المختلفة). وتبقى جوانب تتعلق بالدين وبعض العادات والتقاليد ذات المنشأ الديني التي كانت مثار صراعات كثيرة وكبيرة في الماضي، لكنها في ضوء انتشار مفاهيم التسامح وتقبل فكر الآخر المختلف، أخذ التركيز حولها يتجه إلى جوانب الاتفاق وهي كثيرة مع التسامح في جوانب الاختلاف.
وحتى في العلاقات الدولية التي مثلت فيها كل دولة سلطة ذات سيادة على أرضها وشعبها لا يعلو سلطتها أي سلطة، نجد أن الدول تتجه بصورة مطردة إلى التخلي عن جوانب من سلطاتها السيادية لصالح سلطات عالمية تفوض إليها الدول القيام بجانب من جوانب سلطاتها السيادية، وهي في هذا السبيل تلزم نفسها بمواثيق دولية لمنظمات لها سلطة تعلو على سلطة الدول في مجال اختصاصها: كالسلطة القضائية الملزمة لمحكمة العدل الدولية، أو سلطات الرقابة والإشراف المنظمة؛ مثل سلطة منظمة الطاقة الذرية، أو السلطات الملزمة لمجلس الأمن الدولي وقراراته، إلى آخر ما هنالك من المنظمات الدولية والإقليمية. وهذه كلها تدخل ضمن الصيرورة الإرادية الطوعية إلى التشابه، والاستفادة من كل تقدم في كل مجال.
(22)
وصحيح أن كثيرا من الأمم التي اقتبست هذه الأساليب ومنها اليمن قد مسخت كل تلك البنى الحضارية وأفرغتها من محتواها، بما في ذلك القضاء الذي يصدر هذه الأيام أحكاما بالإعدام على أشخاص زاروا السفارة الإيرانية، في الوقت الذي يتقاضى فيه ستون ألف مسؤول مدني وعسكري من أعلى المراتب، إضافة إلى مشايخ قبائل رواتب شهرية من السعودية بحيث سهلوا لها قضم الأراضي اليمنية وانتهاك سيادة البلاد، دون أن يوجه إليهم أي اتهام هذا ناهيك عن النهب العلني لكل مقدرات الدولة والمجتمع.
وصحيح أن كثيرا من الدول في العالم الثالث تفرغ مظاهر الحضارة من محتواها كما في اليمن، فتزور الانتخابات، وتشخصن أجهزة الدولة، وتهمش القانون ودوره، وتنشر الفساد المالي والإداري ،وتمسخ التعليم..الخ. إلا أن مجرد الاعتراف بأهمية التحضر واقتباس الشكل مع الالتفاف على المحتوى، ينبئ بان مسيرة التحضر قد بدأت وأنها لابد ستحقق أهدافها وستصل إلى غاياتها.