وسائل الإتصال بين الخداع والإنفصال
تشكل الشاشة الصغيرة التي تمسكها الآن خطراً كبيراً على فكرك، وعلى الرغم من
إيجابياتها، إلا أنها تعد من أكبر المخاطر التي تهدد مستقبلك، فإنحصار العالم،
وتداخل ثقافات الأمم فيها، تسبَّبَ في طمس الهوية والثقافة الإسلامية، ولعل
حوادث الطعن التي تشهدها المكلا بين فترة وأخرى، وشبح القتل في وادي حضرموت،
ينبئ بإنفصال الشخصية عن معنى الإنسانية، قبل تجردها من المبادئ والقيم
الإسلامية، ولم تتسع فجوة ذلك الإنفصال لتحدث هذا الجرم العظيم، إلا بسبب ما
نسميه بوسائل الإتصال.
وتكون مظاهر الإنفصال جلية في المناسبات، التي من المفترض أن نقبل على الآخرين
فيها بوجوهنا، لا أن نغوص بها داخل عالمنا الإفتراضي – شاشات هواتفنا التي لا
تفارقنا البته – وبعيداً عن تلك المناسبات، إذا ما لقينا نظرة على جميع
البيوت، حتماً سنشاهد الأغلبية مقيداً أمام هاتفه، غير مبالٍ بكلمات أمه، ولا
بطلبات زوجته، أو إحتياجات ابنه.
أما عن حقيقة عدم إكتمال دائرة الإتصال حتى نسمي تلك الوسائل بوسائل إتصال، هو
غياب المستقبل كطرف وشريك في الإتصال، فعلى سبيل المثال جميع القنوات توهم
الجماهير أنها تستقبل مشاركاتهم، وفي الحقيقة هي تختزل واقعهم، وتوجههم كما
تريد، فالإتصال الحقيقي هو ما كان إتصالاً متبادلاً بين مرسل ومستقبل، ويحدث
فيه تأثيراً وتأثراً، كما في الحوار بين شخصين.
والكثير يظن أن وسائل الإعلام وسائل إتصال ونقل للمعلومات والحقائق بكل
مصداقية، وفي منتهى الشفافية، والصحيح أن وسائل الإعلام هي مرسلة فقط، فطرف
الإتصال واحد، مما ينهي وجود ما يسمى بالإتصال، لعدم وجود المستقبل المتفاعل،
العنصر المهم في العملية الإتصالية.
وسواء كان تفاعل الجمهور بالإتصال المباشر، أو التغريد، والمشاركة، والتعليق،
وغيره، فإن ذلك لا يرتقي ليجعلهم طرفاً حقيقياً فاعلاً في العلاقة الإتصالية،
لتتحق التغذية الراجعة (feedback)، ورجع الصدى الذي يحدث يرجع لعوامل
سيكولوجية، تتحكم فيها الوسيلة تماماً، بناءً على تطبيقنا لقانون نيوتن
الفيزيائي في واقعنا، والذي يقول فيه: “لكل فعل رد فعل”.
وقد تتعمد وسائل الإعلام إحداث صدى واسع لموادها، عن طريق شبكة من المتلاعبين
الممولين من قبلها، ليحدثوا زخماً إعلامياً في مواقع التواصل، سواء بثنائهم
على المحتوى الإعلامي أو بمناهضته، تعمداً في إثارة الجماهير، وتكوين رأي عام،
وهذا ما يحدث في البرامج الجديدة التي تبثها القنوات، لجذب أكبر عدد من
المتابعين.
فالخلل في العلاقة الإتصالية ليس في المستقبل المنخدع فحسب، بل أيضا في المرسل
الأيدلوجي، لأن الصور التي نراها في التلفاز لا تحاكي الواقع، وتدخل فيها
تأثيرات كثيرة، كذلك الأشخاص الذين نراهم لا يظهرون كخلقتهم الحقيقية،
والتناقض يتعدى صورتهم ليشمل أقوالهم وأفعالهم المنمقة.
وحتى الأخبار التي تبثها وسائل الإنفصال، لا تبث كمادة خام على حقيقتها من
أخبار حكومية وغيرها، بل تخضع لتحرير، وإعادة صياغة، وحذف لبعض الألفاظ، ولي
تجارب في ذلك من تغطياتي الإعلامية في الإذاعة والمواقع الإخبارية.
والخلل في العلاقة الإتصالية ليس في المستقبل المنخدع والموجه أصلاً، ليقول ما
تريده الوسيلة الإعلاميه، فكل ما نشاهده أو نسمعه غير حقيقي، ويخفى علينا
المصالح الكامنه خلفه.
وتختلف نسبة الشفافية بين وسائل الإعلام، والدراسات تقول لا توجد أي وسيلة
تنقل الواقع بحذافيره بنسبة 100%، لكن هناك من يقترب نوعاً ما من الواقع مما
يكسبه جمهوراً واسعاً وحقيقياً.